🧠 بين النص والواقع.. أين يبدأ التيسير؟
الفقه الإسلامي ليس مجموعة من الأحكام الجامدة فحسب، بل هو علم حيّ نابض يتفاعل مع الواقع، ويتكئ على أسس الشريعة الكبرى التي تدور حول حفظ الإنسان وكرامته. ومن أعظم مبادئ هذا الفقه: التيسير، الذي يتجاوز مجرد التخفيف، ليعبّر عن عمق في فهم النصوص، واستيعاب لمقاصد التشريع، وتقدير لحال الناس وظروفهم المتغيرة. فهل التيسير استثناء؟ أم هو الأصل؟ وكيف ميّز العلماء بين التيسير المشروع والتساهل المذموم؟📜 ما هو التيسير في الفقه؟
التيسير في الفقه هو تخفيف الحكم الشرعي عن المكلّف مراعاةً لحالٍ من الأحوال، كالمشقّة، أو الضرورة، أو الحاجة الملحّة، دون أن يُخل ذلك بمقصد من مقاصد الشريعة. وهو مبدأ أصيل، دلّت عليه النصوص الكثيرة، قال تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة: 185]، وقال النبي ﷺ: "يسروا ولا تعسروا" [رواه البخاري].🧭 مقاصد الشريعة.. البوصلة التي تُوجّه الفقهاء
لفهم التيسير فقهًا، لا بد من فهم مقاصد الشريعة، وهي الغايات العظمى التي بُني عليها الدين، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وكل حكم شرعي يدور حول هذه المقاصد إما حمايةً أو دعمًا أو إصلاحًا. فحين يُيسّر الفقيه في مسألة، فهو لا يُعارض النص، بل يسعى لتحقيق المقصد، لأنه إن ضُيّق على الناس ضاق عليهم الدين، وإذا ضاق هربوا منه، وتفلتوا من أحكامه.💡 أمثلة قرآنية ونبوية للتيسير
-
✨ الإفطار في رمضان للمريض والمسافر، ليس تخفيفًا عشوائيًا بل رعاية لصحة الإنسان وتحقيق التوازن بين العبادة والقدرة.
-
✨ التيمم عند فقدان الماء يحقق مصلحة الصلاة في وقتها دون الإضرار بالبدن أو تأخير الفرض.
-
✨ قصر الصلاة وجمعها في السفر يراعي ظروف الطريق وتعب المسير.
وهذه كلها شواهد تُثبت أن التيسير لم يكن حالة طارئة، بل منهج ربّاني.
⚖️ ضوابط التيسير: ليس كل تخفيف جائزًا
لا يُقبل التيسير في الشريعة إن خالف نصًا صريحًا أو أدّى إلى مفسدة أو تعطيل مقاصد الدين. ولذلك وضع العلماء ضوابطًا واضحة، منها:-
أن يكون التيسير مستندًا إلى دليل صحيح.
-
ألا يُؤدّي إلى تمييع الأحكام أو إسقاط التكليف.
-
أن يكون مبنيًا على مشقّة حقيقية أو ضرورة معتبرة.
-
أن لا يُعمّم ما كان خاصًا، ولا يُستخدم التيسير لأغراض دنيوية بحتة أو تهرّب من الالتزام.
📚 التيسير في المذاهب الفقهية
عرفت المذاهب الإسلامية التيسير ضمن أصولها، وظهر في فتاوى كبار أئمتها:-
الإمام أبو حنيفة قدّم الرأي على الحديث أحيانًا إذا تعارض مع القياس الظني المفضي لمقصد شرعي أعلى.
-
الإمام الشافعي فرّق بين أحكام البدو والحضر، واعتبر حال الناس معيارًا للفهم والتنزيل.
-
الإمام مالك راعى عمل أهل المدينة كوسيلة لتيسير أحكام تتلاءم مع واقعهم.
-
الإمام أحمد بن حنبل اعتمد مبدأ التيسير عند الضرورة، وظهرت مرونته في فتواه رغم التزامه بالحديث.
🌍 التيسير في العصر الحديث: ضرورة فقهية لا ترف ديني
مع تسارع وتيرة الحياة، وتزايد التحديات التقنية والاقتصادية والاجتماعية، برزت الحاجة إلى الاجتهادات المعاصرة التي تحقّق التيسير دون خرق الثوابت. فظهرت فتاوى تتعلق بـ:-
البطاقات البنكية والتمويل
-
أعمال المسلمين في غير بلادهم
-
الاختلاط في العمل
-
زراعة الأعضاء
-
الفقه الطبي في الإنعاش، الإجهاض، التبرع بالدم
وكلها اجتهادات تُمثّل استيعابًا للواقع الحديث وفق مقاصد الشريعة الكبرى، بعيدًا عن التحجّر أو الانفلات.
🕯️ الفرق بين التيسير الشرعي والتساهل المُضل
البعض يخلط بين التيسير المشروع والتساهل الفقهي، وهو خلط خطير. فالتيسير يستند إلى علم وأصول ومقاصد، بينما التساهل غالبًا ما يكون نتاج هوى، أو مجاراة للعامة، أو ضغط ثقافي. ولهذا قال العلماء: من تتبّع الرُخص تزندق، أي خرج عن روح الالتزام الشرعي، إذا ما جعل الدين تبعًا لأهوائه.🛡️ الوسطية هي عنوان التيسير
التيسير الحقيقي هو نتاج الاعتدال، وهو ما جاءت به الشريعة: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. لا إفراط في التشدد، ولا تفريط في الانفلات. ومن هنا، فإن العالم الحقيقي لا يُيسّر كل شيء، ولا يُحرّم كل شيء، بل يقف على قاعدة "الحق"، ثم يُنزّله برحمة وفق حاجة الناس.🧩 مواقف فقهية من الواقع تُجسّد التيسير
-
👩⚕️ طبيبة مسلمة تؤخّر صلاة الظهر وتجمعها مع العصر بسبب العمليات الجراحية الطويلة، بفتوى من فقهاء معتبرين.
-
👳♂️ عامل في منجم لا يمكنه الوضوء، فيُرخص له بالتيمم.
-
👪 أسر مسلمة في الغرب تصلي التراويح في البيت للخشية من تعرضهم لمضايقات في المساجد.
هذه النماذج وغيرها تعكس فقه الواقع المنطلق من مقاصد النصوص.
👨🏫 دور العلماء والدعاة في نشر فقه التيسير
العالِم المعاصر بحاجة إلى وعي مزدوج: بالنصوص من جهة، وبالواقع المتغير من جهة أخرى. كما أن عليه مسؤولية تبسيط الفقه للناس، دون أن يُسقط هيبته، وأن يربطهم بحب الدين، لا بثقل الأحكام. وهنا يتجلّى التيسير كرسالة تربوية، لا مجرد حكم شرعي.📖 التيسير في التربية والتعليم
حتى في تعليم الفقه للصغار والمبتدئين، كان السلف يحرصون على التدرج والتبسيط، دون تحميل النفوس ما لا تُطيق. فإنّ من أعظم صور التيسير: أن تُحبّب العلم للناس، وتفتح لهم أبواب الفهم، لا أن تضع بينهم وبين الفقه حواجز من المصطلحات والتعقيدات.